كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال الحسن بن صالح: إن قبل بشهوة فعليه الوضوء، وإن كان بغير شهوة فلا وضوء عليه.
وقال الشافعي: إذا مس جسدها فعليه الوضوء، سواء أكان المس لشهوة أو لغير شهوة.
استدل القائلون بأنّ المسّ ليس بحدث بما روي عن عائشة من طرق مختلفة أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقبل نساءه ثم يصلي ولا يتوضأ. وكان يقبلهن وهو صائم؛ ومن ذلك حديث عائشة أنها طلبت النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ليلة. قالت: فوقعت يدي على أخمص قدمه وهو ساجد، يقول: «أعوذ بعفوك من عقوبتك وبرضاك من سخطك».
فثبت بذلك أن المس ليس بحدث.
ثم إن ظاهر مادة المفاعلة فيما يكون فيه الفعل من الجانبين مقصودا، وذلك في الجماع دون اللمس باليد، وأيضا فإنّ اللمس وإن كان حقيقة في اللمس باليد، إلا أنه قد عهد في القرآن إطلاقه كناية عن الجماع، كما في قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] بل هذا اللفظ قد اشتهر في هذا المعنى، تسمعهم يقولون في المرأة البغي، لا تردّ يد لا مس، يريدون أنها ليست عفيفة.
وأيضا فالظاهر أن المراد في هذه الآية من الملامسة أو اللمس في القراءة الأخرى الجماع، لأجل أن تكون شاملة للحدثين الأصغر في قوله: {أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ} والأكبر في قوله: {أَوْ لامَسْتُمُ} أما إذا أريد منه اللمس باليد مثلا، فإنه يكون قليل الفائدة، إذ المجيء من الغائط واللمس حينئذ من واد واحد.
وأما من يرى أن الملامسة هي لمس البدن فهو يقول: إنّ اللمس حقيقة في المس باليد، والملامسة مفاعلة، وهو في الجماع مجاز أو كناية، ولا يعدل عن الحقيقة إلى غيرها إلا عند تعذر الحقيقة.
والواقع أنّ اللمس حقيقة في المس باليد كما في قوله:
لمست بكفي كفّه أبتغي الغنى

ولكنه قد تعورف عند إضافته إلى النساء في معنى الجماع، ويكاد يكون ظاهرا فيه، كما أن الوطء حقيقته المشي بالقدم، فإذا أضيف إلى النساء لم يفهم منه غير الجماع.
وروى ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: ذكروا اللمس، فقال ناس من الموالي ليس الجماع، وقال ناس من العرب: اللمس الجماع، قال: فأتيت ابن عباس، فقلت: إن ناسا من الموالي والعرب اختلفوا في اللمس، فقالت الموالي:
ليس بالجماع، وقالت العرب: الجماع! فقال: من أي فريق كنت؟
فقال: كنت من الموالي، قال: غلب فريق الموالي إن المسّ واللمس والمباشرة الجماع، ولكن اللّه يكني ما شاء بما شاء. وفي رواية، ولكنّ اللّه يكني ويعفّ.
وقد اختار ابن جرير أن الملامسة في الجماع، وإليك نصّ عبارته، قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عنى اللّه بقوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ} الجماع دون غيره من معاني اللمس، لصحة الخبر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قبل بعض نسائه ثم صلّى ولم يتوضأ، وساق في ذلك أخبارا كثيرة بنحو ما قلناه آنفا.
{فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}.
أي إذا أصابكم ما تقدّم من موجبات الطهارة، فطلبتم الماء لتتطهروا به فلم تجدوه، بأن عدمتموه، أو وجدتموه ولكن بثمن لا تقدرون على دفعه، أو وجدتموه ولكنكم تحتاجون إليه، ولا تقدرون على استعماله فتيمموا: أي اقصدوا صعيدا طيبا.
وقد اختلف العلماء في المراد بالصعيد ما هو؟ فقال بعضهم: هو الأرض الملساء التي لا نبات فيها ولا غراس، وقال بعضهم: إنه الأرض المستوية، وقال بعضهم: بل الصعيد التراب، وقال آخرون: هو وجه الأرض، وقال بعضهم: هو الأرض ذات التراب والغبار.
ومعنى الطيب: الحلال الطاهر.
ومعنى الآية: وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لا مستم النساء فأردتم أن تصلّوا، ففقدتم الماء، فاعمدوا إلى الأرض الطاهرة، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم.
وظاهر الآية يفيد أنّ وجود ماء أي ماء لا يصح معه التيمم، إذ قد رتبت الآية الأمر بالتيمم على نفي وجود ماء.
وذلك يقتضي أنه لو وجد ماء، وكان في حاجة شديدة إليه، أو لا يقدر على استعماله أنه لا يتيمم، ولكن لما قاله اللّه تعالى: {ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] {وقال يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] فهم منه أن الغرض من شرع التيمم هو التيسير على الناس، والتيسير على الناس لا يكون بإلزامهم أن يفقدوا ما معهم من الماء في الطهارة ليقعوا في العطب من جرّاء العطش أو الجوع.
وكذلك فهم من ترتيب التيمم على عدم الماء أن المراد ماء يكفي للطهارة، وأما ما لا يكفي لها فوجوده غير معتدّ به.
وقد اختلف فقهاء الأمصار في جواز التيمم بالحجر وما ماثله من كل ما كان من الأرض، فجوّزه أبو حنيفة، واشترط أبو يوسف أن يكون المتيمم به ترابا أو رملا وقال مالك: يتيمّم بالحصا والجبل: وحكي عن أصحابه عنه أنه أجاز التيمم بالزرنيخ والنّورة ونحوهما، وروى أشهب عنه أنه يجيز التيمم بالثلج.
وقال الشافعي رضي اللّه عنه: إنما التيمم من التراب.
ومنشأ الخلاف في فهم الطيّب، فمن حمله على الطاهر قال: المراد كلّ ما كان من جنس الأرض، بشرط الطهارة.
وقد أطلق الطيب وأريد به الحلال الطاهر، كما في قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ} [البقرة: 57].
ومن فهم أنه ينبت قال: إنّ المراد الأرض الصالحة للإنبات، وهي ذات التراب، وقد أطلق الطيب وأريد منه ذلك كما في قوله: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58]، للأولين أن يقولوا: إنّ هذا الإطلاق غير مراد هنا، لأنّ المراد بالطيّب في قوله: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ} البلد الذي ليست أرضه سبخة، ونحن مجمعون على جواز التيمم بتراب الأرض السبخة، فعلمنا أنّ الطيّب بهذا المعنى غير مراد هنا.
وهذا وظاهر قوله تعالى في سورة المائدة: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] يدلّ على أنّ المراد بالصعيد: شيء يصل أثر منه إلى الوجه واليدين عند المسح.
وهل المسّ على الحجر الأملس يصل منه شيء إلى الوجه واليدين؟
فنحن نرى أنّ الظاهر قول من قال: بأن المراد بالصعيد تراب الأرض، والسنة تؤيّد هذا، فقد روي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من طرق صحيحة، جعلت لي الأرض مسجدا، وتربتها طهورا، وروي و«ترابها طهورا».
نعم قد ورد في هذا المعنى «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا».
ولكنّ هذا يجب أن يحمل على ما جاء في الروايتين الأخريين جمعا بين الروايات.
{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُورًا}.
هذا بيان لكيفية التيمم، وقد اختلف فيها فقهاء الأمصار، فذهب الحنفية والمالكية والشافعية والثوري والليث إلى أن التيمم ضربتان، ضربة للوجه يمسحه بها، وضربة لليدين يمسحهما بها إلى المرفقين، وهو مرويّ عن جابر وابن عمر.
وقال الأوزاعي: تجزئ ضربة واحدة للوجه والكوعين.
وقال الزهري: ويمسح يديه إلى الإبط.
وقال ابن أبي ليلى والحسن بن صالح: يتيمم بضربتين، يمسح بكل واحدة منهما وجهه وذراعيه ومرفقيه، وقد نقل أبو جعفر الطحاوي فيما رواه الجصاص عنه أنّ هذا الرأي لم يعرف عن غيرهما.
وقد جاء في السنة ما يؤيد ما ذهب إليه الجمهور، فقد روي عن ابن عمر وابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في صفة التيمم أنه ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين.
وقد يقال: إنّ ظاهر قوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} يقتضي مسح البعض كما دلّ على ذلك قوله في الوضوء: {وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ} [المائدة: 6] إذ الباء تقتضي التبعيض، إلا أن الفقهاء قد اتفقوا على أنه لا يجوز له الاقتصار على القليل، وأن عليه مسح الكثير، بل ذكر الكرخي من الحنفية أنه إن ترك شيئا قليلا أو كثيرا لم يجزئه، وقد جاءت الباء في قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ولا يجوز الاقتصار في الطواف على بعض البيت فما هنا من هذا القبيل.
هذا وقد عرض المفسرون هنا إلى أنّ التيمم هل يكفي لصلوات متعددة ما دام فاقدا للماء أم لا؟
ونحن نرى أنّ الآية التي نحن بصدد تفسيرها لا يستفاد منها شيء من هذا لا نفيا ولا إثباتا، وإنما ذلك يستفاد من أدلة أخرى تطلب في كتب الفقه.
{إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُورًا} يعفو عما كان منكم من قيامكم للصلاة وأنتم سكارى، ويستر ذنوبكم، فلا تعودوا لمثلها فيعود عليكم إثمه وعذابه.
قال اللّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)}.
الأمانة مصدر سمّي به المفعول وهو ما يؤتمن عليه.
روي في سبب نزول هذه الآية أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لما دخل مكة يوم الفتح أغلق عثمان بن طلحة بن عبد الدار باب الكعبة، وكان سادنها. وصعد إلى السطح، وأبى أن يدفع المفتاح إليه، وقال: لو علمت أنه رسول اللّه لم أمنعه، فلوى علي بن أبي طالب يده، وأخذ منه المفتاح، وفتح، ودخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وصلّى ركعتين، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح، ويجمع له السقاية والسدانة فنزلت هذه الآية، فأمر النبيّ عليا أن يرده إلى عثمان، ويعتذر إليه، فقال عثمان لعلي: أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق! فقال: لقد أنزل اللّه في شأنك قرآنا، وقرأ عليه الآية، فقال عثمان: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأنّ محمدا رسول اللّه، فهبط جبريل عليه السلام وأخبر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنّ السدانة في أولاد عثمان أبدا.
نزلت الآية على هذا السبب الخاص، وليس ذلك بمخرج اللفظ عن عمومه، فهو عام يتناول كل ما يؤتمن عليه الإنسان، سواء أكان ذلك في حق نفسه أم في حق غيره من العباد، أم في حق ربه، فكلّ ذلك يجب رعاية الأمانة فيه، فرعاية الأمانة فيما هو من حقوق اللّه أن تمتثل أوامره. وتجتنب نواهيه، قال ابن مسعود رضي اللّه عنه: الأمانة في كل شيء لازمة، في الوضوء والجنابة والصلاة والزكاة والصوم.
وقال ابن عمر رضي اللّه عنه: خلق اللّه فرج الإنسان وقال: هذا أمانة خبأتها عندك، فاحفظها إلا بحقها.
وأما رعاية الأمانة في حقّ النفس، فهو ألا يقدم الإنسان إلا على ما ينفعه في الدنيا والآخرة، وفي هذا يقول الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم: «كلكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيته».
وأما رعاية الأمانة في حقّ الغير فهو رد الودائع والعارية، وعدم غش الناس في كل ما يتصل بالمعاملة، من بيع وشراء، وجهاد ونصيحة، وألا يفشي عيوب الناس، وينشر الفاحشة.
وقد اعتنى القرآن بشأن الأمانة، وبيّن خطرها وعظيم قدرها في مواضع كثيرة، فقال: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ} [الأحزاب: 72] وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8)} [المؤمنون: 8] وقال: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ} [الأنفال: 27] وقال عليه الصلاة والسلام: «لا إيمان لمن لا أمانة له».
وقال: «ثلاثة لا يكلمهم اللّه يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان».